• أسلوبه الفني
يبرز "هنري مور" عاليا بين جميع الفنانين النحاتين في القرن العشرين الذين وضعوا لمسات، وتركوا بصمات، وأفلحوا في إعادة صياغة هذا الفن، وكان مور أكثرهم تميزا، وأعمقهم فهما، وأصفاهم رؤية، وأوعاهم إدراكا لروح وحيوية اللغة التشكيلية.
وكان فن النحت في إنجلترا على العكس من فن التصوير (الرسم) خاملا ذابلا لا يكاد يبين. ومَن يتأمل باناةٍ ودقة أعمال "هنري مور" من البداية، يدرك أن هذا العبقري الملهم أمضى وقتا طويلا مع الصبر والفكر، حتى استطاع التوفيق السديد بين قواعد فن النحت والمقومات العضوية لطبائع الأشياء. ومن هنا، من هذه الرؤية الثاقبة للفنان، يمكن بسهولة فهم إحساسه المرهف، وتناوله الأنيق الجرئ للمادة، وتشكيلها بوعي وذكاء فيُضفي عليها حيوية مستترة، في ظاهرها وبطنها، وكأنه سحر صامت، أو بِدع من خلق عجيب. ويُخيل إلى المشاهد المتفحص أن الفنان "مور" أعاد صياغة الكتلة أو المادة، ولكن بإحساس ومهارة من يعرف جيدا كيف يصغي غلى اللغة الصامتة في جوف الحجر، والخشب، والمعادن، والرخام.وذلا فإن الأعمال التي خرجت من بين يديه، تحتفظ بخصائص المادة التي صُنعت منها. ودائما عند "مور" تكتسي أعماله بالمعاناة الإنسانية، والشعور الحزين بانتقاص الكمال، الذي لا تخلو منه الحياة.
إن "مور" يرفض جمال الإفراط في الإتقان، فهذا عنده شئ مصطنع، غير حقيقي. الأفضل عنده اختبار الحيوية وكشفها وإبرازها للبصائر والعيون. ولم يكن هنري مور مطلقا عضوا في جماعة ذات نزعة سوريالية، لكنه كان يميل إلى وجهتهم، وكان هذا سببا في اتساع آفاق رؤيته، وأتاح له مجالا فسيحا للإسهام في نهضة الفن الحديث. ولكي نفهم جيدا أعمال "مور" ودوره، نراجع في أناة بعض آرائه وكتاباته. يقول:" لايهدف فن النحت عندي إلى صياغة الجمال علىنحو ما فعله المثالون الاغريق والرومان وفنانو عصر النهضة. هناك فرق وظيفي جوهري بين جمال التعبير والقدرة على التعبير. فالأول يبتغي إمتاع الجلوس، والثاني يتحرى انتعاشا روحيا لا يتوقف عند حد الاستثارة، بل بتجاوز إلى الأفضل. فالعمل الفني لا يقصد به محاكاة مظاهر الطبيعة، ويعني ذلك بالضرورة رفضا للحياة، وتنبيها إلى اكبر طاقاتهاالحيوية الكامنة". تلك كلمات فنان لم يلتمس تعبيرات ميتافيزيقية ولا فلسفية جمالية، وإنما هو فنان يتحدث من خلال تجربته الذاتية، ورؤيته الاستنباطية. وهو يؤمن بان الفنان أيا كان مثَالا أو رساما أو موسيقيا أو شاعرا.... ، لا يجب أن يُقيد هدف محدد، بل هو ينطلق من شعوره الداخلي، من إحساسه الطبيعي نحو الطبيعةنحو المادة التي يستخدمها، وأدواته التي يستعين بها. إنه يسعى ويعمل مثل المستكشف، قد يخطئ الاتجاه، وقد يعود أدراجه علىهواه، لكنه يُصرُ ويقاوم حتى يقترب شيئا فشيئا مما يَتَرَضاه. وإن الأشكال التي صاغها وأنجزها لتكسب حياتها الخاصة، وذاتيتها المتميزة، وحيويتها المتدفقة، في تطور منطقي مع مسار حياته. ولم يكن في استطاعته تغيير مساره ولا أسلوبه، حتى ولو فكًر في مغامرة جديدة.
أما مغامرته الثانتة، فكانت تبتدئ برسوم لدراسة مايتعزم علمه، ولكنها رسوم لها قيمة خاصة. فقد تبدو تقليدية، إلا انها تُراعى وتدرس ليس فقط الأبعاد الثلاثة، وإنما أيضا كتلة المادة ووزنها. وتظهر في رسومه التخطيطية خطوط كثيرة متراكمة بعضها فوق بعض بعصبية أحيانا، حتى يتضح الشكل المرغوب، بقوة أو صلابة متوارية، متضمنا أثر تجربه عجيبة، على عكس ما تُظهر الرسوم التخطيطية المبدئية عند ليوناردوفنشي أو روادن. وفي سنوات اختباراته الولى، تبدو في رسوم " هنري مور" تاثيرات الأشكال المكسيكية والمصرية الفرعونية.
وجانب آخر في أعماله "مور" البارعة المتميزة: رؤيته للإنسان والطبيعة، أو الإنسان في الطيعة. كانت له شهرة وميل كبير نحو الشخوص الجالسة رجلا ونساء في استرخاء وتمدُد، مستخدما فيها قيمة وإيحاءات الفراعات والبروزات والكُتل القائمة أو المائلة أو الناتئة. وفضلا عن دلالاتها الجمالية والفكرية والنفسية (كما يستبين من الصور المرفقة وتعليقاتها)، فإنه جعلها تماثيل بيئية أو حدائقية. وغرضه من ذلك التأكد بقوة على أن الإنسان جزء حيوي عضوي من البيئة، والطبيعة ومكوناتها، مُتناغم معها غير مُتصادم، موجود بوجودها معدوم بعدمها. بل إن الطبيعة الكونية بأجمعها تتمثل في مظهره هو وكيانه: فعندما تنادي تماثيلة الخارجية (أي الموضوعة في حدائق وساحات وأفنية مكشوفة في بعض العواصم والمدن) بلُغتها الصامتة مشيرة غلى العلاقة الوثيقة بين الإنسان والطبيعة أو عناصر ومناظر طبيعية: فالصدر ومايحمل، والرأس ومايشمل، وكذلك الأكتاف، والجذع، والأفخاذ، والأطراف.. تصبح مرادفة لجبال، ووديان، وكهوف، وتلال كُثبان، وبحار ومجاري أنهار. وتصير أعمال "مور" أصيلة حقا ومبتكرة جديدة كل الجِدَة، وكأنما يريد أن يلفت أنظارنا وانظار القادمين من اجيال بعدنا، إلى مصدر خَلق الإنسان، وإلى أي بيئة ينتسب، وفي أي وسط يظهر، ويعمل، ويُبدع، ويُعمِر ويرتزق. وقد ظن البعض أن "مور" يرمي غلى التعبير بنظرة يائسة متشائمة محمطة عن تشتُت وتمزُق الإنسان المعاصر وفراغه من الداخل، لكن العكس هو الصحيح: كان خيال "هنري مور" يحلِق سابحا سارحا في آفاق ابعد من ذلك وأسمى وأجل في وحدة الإنسان والكون، في رؤية جديدة صافية للإنسان، تتحرى دقة الأبعاد والمقياس، من غير توهُم أو التباس.
تمثال : "شخص (غالبا انثى) ممدد في استرخاء" – 1951، تمثال من البرونز، طوله 51 سم.
نحت مور أكثر من تمثال للشخص الجالس في استرخاء. وهو هنا باسلوب جديد مختلف عما سبق، فقد اكتشف الفنان واستحدث الحيِز الداخلي، فثقب الكتلة، وحفر وأفرغ، واحتجز في تجويفها الداخلي ناوة تشكيلية كناية عن دورة التكاثر أو الإنجاب.
تمثال : "شخص (غالبا انثى) ممدد في استرخاء" – 1951، تمثال من البرونز، طوله 51 سم.
نحت مور أكثر من تمثال للشخص الجالس في استرخاء. وهو هنا باسلوب جديد مختلف عما سبق، فقد اكتشف الفنان واستحدث الحيِز الداخلي، فثقب الكتلة، وحفر وأفرغ، واحتجز في تجويفها الداخلي ناوة تشكيلية كناية عن دورة التكاثر أو الإنجاب.
"قطعة ذات ثلاثة اتجاهات" – 1964، تمثال من البرونز ، ارتفاع 77 سم. الفكرة الساسية ترتكز على ان ضغط القوة في الكتلة يعمل أو يؤثر من الداخل إلى الخارج، وتسيطر بذكاء وحيوية على التكوين التشكيلي.
"شخص مُعانق" – 1962،تمثال من البرونز، بارتفاع 107 سم، نيويورك استلهم الفنان الفكرة من تصوُر قطعتين من الحصى متشابهتين متجانستين في علاقة ترابطية تُبرز تشكيلا يحتفظ بالحيوية القلقة المضطربة في قطعة من الطبيعة.
"الخوذة" – 1940، تمثال من الرصاص ، انتحل الخوذة الواقية للرأس معنى وشكلا سورياليا مؤداه: الأمومة تحمي الجنين.
وتحياتي للجميــع
Bookmarks